👁 1٬228

حضور السياسي وغياب العقلي في القضية الأوكرانية

Логотип Al Mada

في آب 2017 يكون قد مرّ على استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفييتي ست وعشرون سنة. معلوم أن بداية الدولة الأوكرانية الأولى كانت في عهد “روس كييف” وحكومة القوزاق الأوكرانية. لكن هذا ليس ما يهمنا الآن، يهمنا أن نقول إن التاريخ الحديث لأوكرانيا الجديدة بدأ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط تلك القلاع التي كانت تلقي ظلال قوتها وهيبتها على العالم، بل وتتحكم في أجزاء كبيرة منه.
بعد استقرار الدولة الروسية الجديدة ” ولملمة ما أمكن لملمته لتظل حاضرة بقوة في العالم، صار ضمن منهاجها السياسي حماية كيانها “الروسي” الجديد من توسع نفوذ الغرب وانضمام عدد من دول الاتحاد السوفييتي القديم الى الاتحاد الأوربي. كانت أولى المواجهات مع جورجيا وتحييد أو سلخ افخازيا. الدول المستقلة أما انضمت بشكل رسمي الى الاتحاد الأوربي أو ارتبطت بصِلات ستراتيجية غير معلنة.
هي مشكلة لروسيا وعمل مركزي للاحتفاظ بما أمكن أو في الأقل منع افادة الخصوم منه مما يشكل خطراً عليها. وفي السياسة هي فرصة للإفادة أيضاً ولفرض نفوذ، نفوذ جديد يخدم مصالح قديمة جديدة
بالنسبة للدولة الأوكرانية، دولة مستقلة باعتراف دولي وباعتراف روسيا أيضاً. لكن أوكرانيا تقع على حدود روسيا، ولها على البحر الأسود “القرم” أهم قاعدة جوية. هي منطقة جبلية، فيها مخابئ جبارة للطائرات. هي واحدة من أهم القواعد العسكرية السوفييتية، وما نزال حتى اليوم بعد استعادتها من أوكرانيا. وفضلاً عن اهمية القرم العسكرية، هي منطقة سياحية، بل مركز سياحي عظيم. ولأن أوكرانيا قريبة من الحدود البولونية وهذه قريبة من ألمانيا، زادت خشية روسيا من الاتحاد الاوربي. وثمة مساحة “أوكرانية” تربط القرم بالأراضي الروسية، تم ضمّها الى القرم ومعها دانتسك بعد استيلاء الانفصاليين الموالين لروسيا عليها.
واقع الحال إذن: انها منطقة حرجة وصعبة بالنسبة للسلام الروسي، وخوف روسيا من التقدم العسكري الغربي والاقتراب من حدودها خوف مشروع ولكن مبالغ فيه. فبين الدول اتفاقات وثمّة تفاهمات عسكرية بين روسيا والغرب وثمة بنود تفاهم مع الناتو كما بينهم وبين الاتحاد الأوربي. ثم ليس هيّناً التحرش بدولة نووية عظيمة مثل روسيا. لكن مثلما نقر بأن الاتحاد الأوربي سياسي قبل أن يكون مدنياً، هو عسكري أساساً وأي عذر لا يقف صامداً أمام الواقع السياسي الدولي.
في الوقت نفسه نقر أيضاً “بتجدد” الأطماع الروسية وبإفادتها السريعة والمباشرة من فرصة إعلان أوكرانيا رغبتها في الانضمام للاتحاد الأوربي فتسرع وتستعيد القرم وتغذي تمرد الانفصاليين الموالين لها في المناطق القريبة من القرم ومن حدودها.
والآن، هل خشية روسيا من اقتراب الاتحاد الأوربي (مع الناتو) من حدودها يعني أن يتخلى الشعب الأوكراني عن إرادته واستقلاله وتطلعاته العصرية وأوكرانيا دولة مستقلة لها حق عقد اتفاقيات سياسية وغير سياسية كأية دولة حرة؟
ثم علينا أن لا ننسى ونظل واقعيين في الكلام والأحكام، فلا نستبعد الثقل التاريخي السوفييتي على الدول التي كانت منظمّة له وأوربا المزدهرة قريبة منها. لقد كانت تخضع ولا اقول “ترزح” تحت حكم شبه شمولي، وقوانين صعبة صارمة تقابلها إغراءات الحياة الغربية. وفي الإعلام والبروبوجندا تغيب كثير من الايجابيات.
أفليس حقاً لأوكرانيا، وهي الدولة الأوربية المستقلة الآن، أن تكون أوربية وتحقق نقلة اجتماعية في تاريخها الجديد؟ نحن نعلم بحلم العديد من ناس الاتحاد السوفييتي في حياة جيدة مرفهة كما يسمعون عنها وكما تسوّقه الميديا القريبة وكما يقرؤن عن حياة “حرّة” ضامنة لحرية التعبير والمعتقدات وحرية الاطلاع والسفر وربما بالثراء أو الرفاهية في الأقل بدلاً من حياة التقشف والمنع والإدارة الصارمة.
جماهير عريضة من الشعب الأوكراني تفتقد فرص الحصول على الدولار الذي يمكنهم من التمتع بنعمة الحرية الجديدة . مع ذلك يبقى الاستقلال القومي بديلاً ومصدر سعادة لا نستطيع نكرانها على الشعوب. وهو حق مسترّد ضمن واقع دولي معلوم. نحن، في منطق العصر، لا نستطيع أن نمنع شعباً أعلن استقلاله واعتُرِف دولياً بهذا الاستقلال، من أن تكون له تطلعاته الخاصة ومثلما تتفق هذه التطلعات الجديدة مع بعض الدول قد لا تناسب او ترضي دولاً أُخرى. وهذا ما حصل تماماً فالتطلعات الأوكرانية ترضي، بل تريدها الدول الغربية أو قل أعداء روسيا. وسبّبَ قلقاً مبالغاً فيه للدولة الروسية. هنا يختلف عن التعامل العقلاني والتفاهمات الدولية لتذليل ما لا يرضي دول الجوار وروسيا قبل سواها. وليس من حلٍ آخر يمكن أن يعيد أوكرانيا الجديدة الى ما كانت عليه زمن الاتحاد السوفييتي. هذا الشعب، اعني الشعب الأوكراني أعلن استقلال دولته في عام 1991 ومن ذلك التاريخ حتى اليوم نما جيل جديد يحترم التقاليد الديمقراطية الغربية وألِفَّ التمتع بالحقوق والحريات وصار يمارس اقتصاد السوق. تحول كامل حصل. فلا جدوى بعد من ردعه او ارجاعه.
نحن إذن بين حق روسيا، بحماية نفسها من تقدم الناتو الى حدودها، وبين حق أوكرانيا الدولة المستقلة في تحقيق تطلعاتها والتقرب من أوربا “الاتحاد الأوربي” بوصفها دولة أوربية. وهنا حصلت الازمة بين الدولتين، وحقيقتها بين القوتين العظيمتين الغرب وراءه أمريكا والشرق المتمثل بروسيا وريثة الاتحاد السوفييتي.
أرى أن هذا تبسيط للمسألة لأننا نتحدث عما نرى لا عما نهجس أو نظن مما خفيَ وخُطِّط له. النتيجة أن التضاد بين الاتجاهين أدّى لأن يتذكر الروس روح غزو جيكوسلوفاكيا والمجر، فاندفعوا لاستعادة القرم – المنطقة الأكثر أهمية في أوربا كلها. حرك الروس الأوكران ضد دولتهم الأوكرانية بوصفها دولة قومية، شوفينية في الوصف المعروف المتداول. هكذا حوّلت السياسةَ المسألة الى صراع قومي، كما يبدو ظاهرياً، وهذا الصراع غذاه الروس بالسلاح ليسيطر الروس الأوكران على دانتسك وشبه جزيرة القرم ولتتصل هذه البقاع بالاراضي الروسية. تمت السيطرة على المسافة التي تمتد من القرم ودانتسك الى الحدود الروسية. معنى هذا أن جزءاً كبيراً من أوكرانيا صار ضمن التوجه الروسي. بتعبير آخر، هذا القسم من أوكرانيا لن ينضم الى الاتحاد الأوربي، وهو القسم الستراتيجي والمهم عسكرياً اتصلت الأجزاء المنسلخة من اوكرانيا بالأراضي الروسية. لقد صنعوا من هذه دويلة غير معترف بها دولياً. لها علم وتستعمل جواز سفر روسي وعملتها الروبل. أهي دولة أم غش سياسي؟ المهم أن روسيا ضمنت القسم الذي يجيء منه الخطر.
لنتبيّن حقيقة الأمر أكثر، نترك التساؤلات ونطرح تساؤلاتنا نحن، فنقول:
أما كان ممكناً حلَّ هذا التناقض بين التطلع الأوكراني و “الحاجة” الروسية؟ أما كان ممكناً الحفاظ على العلاقات الإنسانية بين الشعبين الروسي والأوكراني والسلم الاجتماعي داخل أوكرانيا؟ اما كان ممكناً أن تضمن روسيا سلام حدودها باتفاقية، بمعاهدة، تتعهد بها الدولة الأوكرانية بعدم السماح باستعمال أراضيها ضد البلاد الروسية والسماح للروس بالدفاع عن بلادهم عبر ممرات عسكرية ضد هجوم قد يقع عليها ؟ أما كان ممكناً ايجاد حلول تضمن سلامة الدولة الروسية وتحافظ على استقلال أوكرانيا وتحترم تطلعاتها للحياة الجديدة، بما فيها الانضمام للاتحاد الأوربي؟ هل توقف العقل البشري فلا حل إلا احتلال مدن وإثارة تمرد مسلح؟ إلّا حرب انهكت وما تزال تنهك الشعب الأوكراني وتوقف مشاريعه التنموية؟ هذا عمل انتقامي عقاباً للدولة على تطلعها ورغبتها في العلاقات الدولية المشروعة.
هكذا وضعوا ، أو عاقبوا أوكرانيا في اشعال حرب وتمرد انفصالي من جهة ومعونات وشروط الصندوق الدولي المؤذية للجماهير الأوكرانية من جهة ثانية.
المسألة في رأيي تتجاوز رغبة روسيا في حماية حدودها. فإثارة التمرد وانفصال مناطق عن أوكرانيا واستعادة روسيا للقرم، لم يتم بعد استقلال أوكرانيا ولكن حال أعلنت أوكرانيا رغبتها في الانضمام الى الاتحاد الأوربي، أي بعد أكثر من عشر سنين على الاستقلال. ولم يحصل خلال هذه السنوات أي من التجاوزات من العنصريين أو القوميين الأوكران على الجماعات العرقية الأُخرى. دعوى حماية الأوكران الروس من تجاوزات القوميين الأوكران ليست حجة سياسية مقنعة. والغريب في المسألة أن الحل الروسي ضد التشدد القومي جاء هو أيضاً بتشدد قومي روسي! كم فاجع هذا بعد النظرية الإنسانية وحرية الشعوب واحترام إرادة الجماهير؟ هكذا يُنْسَف كل التاريخ المشترك والشعور الأممي، ليوضع بلد اشتراكي شارك الشعوب السوفييتية في السراء والضراء، ودفع مالاً ودماً، بين قسوة الرفاق القدامى، القوة الروسية، وبين شراهة ومطامع المصالح الغربية؟
مؤسف أن يحدث هذا بين شعبين لهما تاريخ حافل بالمنجزات كما في التضحيات والنضال الإنساني. مؤسف أن تشمل أوكرانيا المُسالمة محنة البلدان التي تريد التحرر وأن تدفع ثمن تقاطع المصالح والابعاد الستراتيجية المتعادية كما بين الناتو- الاتحاد الأوربي والدولة الروسية وريثة المجد السوفييتي وأن يجر هذا للسيطرة على أقسام واسعة من أوكرانية لتكون منطقة عازلة وامتداداً روسيا.
أرى واجباً احترام الفكر الذي تربّي عليه الشعبان الروسي والأوكراني واحترام رغبة أوكرانيا المستقلة، باعتراف دولي واعتراف روسي، في الحرية والحياة الجديدة. إن تشجيع الانفصاليين لا يليق بروسيا لا يليق بها أن تحمي مواليها من التطرف القومي بتأكيد قومي آخر! وراء ذلك تركن الاطماع الخافية، وراءه حضور السياسي وغياب العقلاني في مواجهة التحولات. حضور العقل في السياسة يعني الفهم الحضاري والعلاقات الإنسانية وتحقيق توازن مقبول لضمان مصالح الطرفين ورغباتهما. وليس صعباً بعد ذلك ضمان سلامة الحدود الروسية وأمنها القومي كما سيرفع المعوقات عن طريق تقدم الشعب الأوكراني ونموّه الاقتصادي. إن سيادة النظام وسلطة الدولة الأوكرانية من شأنه حماية حقوق الانفصاليين، من الموالين لروسيا وسلامهم والسيد بوتين الذي انتهج هو أيضاً أسلوباً قومياً، يعلم جيداً أن الضغط على أوكرانيا يدفعها أكثر الى الغرب وهذا لا يرضيه. لكنه من ناحية أُخرى، يرضى بأن تظل أوكرانيا محاصرة، فلا أحد يريد خصمه أن يتقدم أكثر…

ياسين طه حافظ

Source

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *