👁 1٬211

الصين تبحث عن النمو العالي الجودة

هونج كونج ــ مع بدء الرئيس الصيني شي جين بينج فترة ولايته الثانية التي تمتد خمس سنوات، أصبح التحول نحو “النمو العالي الجودة” على رأس أوليات الأجندة السياسية في الصين. وفي مختلف دوائر الحكومة الصينية، يترسخ التزام هادئ ولكنه حازم بتعزيز نموذج نمو جديد يصحح التشوهات الناجمة عن عقود من النمو الذي تجاوز 10% ــ بما في ذلك الفساد، والتلوث، واتساع فجوة التفاوت، وغير ذلك من اختلالات التوازن البنيوية.

على مدار السنوات الأربعين الماضية، كانت الصين تركز على التنمية السريعة القائمة على الأراضي، والمدفوعة بالمبادرات المحلية التي استهدفت اجتذاب الاستثمار في البنية الأساسية، والموارد البشرية، والإيرادات الضريبية. وقد عمل إنشاء مناطق اقتصادية خاصة، ومتنزهات صناعية، ومناطق تجارة حرة، على تسهيل جهود التنمية، التي استفادت من مجمع ضخم من العمالة الرخيصة المهاجرة من المناطق الريفية.

خلال هذه العملية، استخدمت الصين نمو الناتج المحلي الإجمالي كمقياس رئيسي للنجاح. وعمل هذا على تمكين وضع أهداف وحوافز محددة بدقة للمسؤولين المحليين في تنافسهم بين بعضهم بعضا. ولكنه أدى أيضا إلى تفاقم مشاكل خطيرة ــ مثل الضرر البيئي، والتفاوت بين الناس، والديون المفرطة، والقدرة الفائضة، والفساد.

واليوم، تنظر السلطات الصينية في مجموعة أوسع من التدابير على المستويين المحلي والوطني التي لا تغطي النمو فحسب، بل وأيضا جودة الحياة. وقد عرض المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بالتفصيل الرؤية الكامنة وراء هذا التحول، عندما أكد شي جين بينج على 14 مجالا سياسيا تشكل أهمية بالغة لتطوير “الاشتراكية” بخصائص صينية.

وكان بين هذه الضرورات “تبني رؤية جديدة للتنمية”، والتي “تضمن مستويات المعيشة وتعمل على تحسينها”. وينبغي لهذه الرؤية أن ترتكز على الالتزام بنهج “يتمحور حول الناس” فضلا عن “الانسجام بين البشر والطبيعة”. كما أكد شي جين بينج على الإدارة القوية، وعلى وجه التحديد “ضمان قيادة الحزب لكل الأعمال”، و”ضمان قيام كل بُعد من أبعاد الحكم على القانون”، و”ممارسة الحكم الكامل والدقيق على الحزب”.

والدافع وراء تحول تركيز التنمية في الصين ليس لغزا غامضا. فالآن، أصبحت الصين الدولة صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالَم وتمثل ما يقرب من نصف النمو العالمي. وقد لحقت الصين الآن إلى حد كبير بالدول المتقدمة عندما يتعلق الأمر بالبنية الأساسية، والتجارة، والاستثمار، والتصنيع. ويتوقف استمرار الصين في تعزيز مكانتها على الساحة العالمية الآن على تلبية بل وحتى تجاوز المعايير العالمية في مجالات تتراوح بين الاستدامة والحكم الرشيد.

بطبيعة الحال، يتطلب التصدي للتحديات التي تواجهها الصين الكثير من التجربة والخطأ ــ وهو ما يشبه كثيرا الجهود التي مكنت التنمية في الماضي ــ ناهيك عن قبول بعض الخسائر الاقتصادية. على سبيل المثال، يمثل انحدار المناطق الصناعية في شمال شرق الصين وصعود تكتلات صناعية حديثة وقادرة على المنافسة عالميا في منطقة دلتا نهر بيرل ودلتا نهر يانجتسي في جنوب شرق الصين وجهين لنفس العملة. لقد خلقت منافسة السوق في الصين فائزين وخاسرين، حيث أخذ الفائزون في الجنوب الشرقي رجال الأعمال، وأصحاب المواهب، وغير ذلك من الموارد من الخاسرين في شمال شرق البلاد.

سوف تتطلب إدارة تحول الاقتصاد الإقليمي في الصين، مع الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، إيجاد توازن دقيق بين استراتيجية النمو القديمة التي يجسدها الخاسرون، والتي اعتمدت بشكل كبير على الشركات المملوكة للدولة والاستثمارات العامة، والنهج الجديد الأكثر توجها نحو رأس المال البشري الذي يعكف الفائزون على تطويره. وفي هذه العملية، تحتاج الصين إلى وضع عوامل محلية في الاعتبار، مثل الاتجاهات السكانية، والموارد الطبيعية، وجاذبية المنطقة للسياح المحليين من ذوي الدخل المتوسط.

وتتطلب عملية إعادة التوازن أن تعمل الحكومة المركزية على المساعدة في تخفيف أعباء الديون الناجمة عن المشاريع المفلسة في المناطق الخاسرة، مثلما فعلت في تسعينيات القرن العشرين، عندما شطبت الخسائر التي تكبدتها الشركات المملوكة للدولة أثناء الأزمة المالية الآسيوية. ولا يعني هذا أن الصين ينبغي لها أن تنقذ الصناعات المحلية التي عفا عليها الزمن. بل يعني منع التكاليف الغارقة المترتبة على نموذج النمو السابق من ترك مناطق بأكملها واقعة في فخ النمو المنخفض الجودة والتنمية الضعيفة، من خلال تمكين السكان المحليين من تطوير مشاريع بادئة مبدعة، مع الاستثمار في الوقت نفسه في المشاريع التي تخلق فرصا جديدة للدخل.

وإلى جانب إدخال التعديلات البنيوية على جانب العرض، يتعين على الصين أن تضمن قدرة استراتيجية النمو الجديدة على معالجة مشاكل جانب الطلب في “الميل الأخير” في ما يتصل بالتنمية الحضرية والبشرية، بما في ذلك الاختناقات المرورية، ومعوقات البنية الأساسية، ونقص المساكن، وخدمات إدارة النفايات غير المكتملة، وعدم كفاية التعليم والرعاية الصحية. في ظل الظروف الحالية، يُعَد حل هذه القضايا على المستوى الجزئي ــ وهو ما يشكل أهمية بالغة لرفاهة البشر ــ من بين أضعف المجالات التي تتناولها خطط إصلاح الاقتصاد الكلي المعقدة وخطط الإصلاح الاجتماعي.

الواقع أن الصين لديها كل ما تحتاج إليه من موارد مادية ومالية واجتماعية لمعالجة هذه المشاكل، والتي ترقى في واقع الأمر إلى فرص استثمارية كبرى للقطاعين العام والخاص. لكن نجاح أي استراتيجية يستلزم عدم اكتفائها بالتعبير عن ردود الفعل المحلية حول ما يمكن إنجازه في ظل الظروف المحلية فحسب؛ بل يتعين عليها أن تسمح أيضا بملكية الحلول محليا، بما في ذلك التصميم والتنفيذ.

في كل الأحوال، أظهر قادة الصين الرغبة والقدرة على النظر إلى الصورة الكبيرة، وقبول معدلات نمو أقل للناتج المحلي الإجمالي، وهم يعكفون على إعادة التوازن إلى نموذج التنمية في البلاد وملاحقة إدخال التحسينات على جودة الحياة. ولن يكون تحقيق رؤية “التنمية التي تتمحور حول الناس”، التي أعلنها شي جين بينج في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بالمهمة السهلة. لكن الصين تسير على المسار الصحيح.

Source

ترجمة: إبراهيم محمد علي          Translated by: Ibrahim M. Ali

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *